المستشفى الإيطالي: حكاية المبنى الذي أنقذ ذاكرة القصير | صور

تقرير يكتبه : الدكتور طه الجوهرى |

في قلب الصحراء القاحلة، حيث لا صوت يعلو فوق صمت الجبال الصماء، يتربع مبنى المستشفى الإيطالي، كتحفة معمارية شاهدة على زمن مضى، يحمل في ثناياه أسرارًا وحكايات لا زالت ترويها جدرانه العتيقة. شُيد هذا الصرح عام 1914، على يد مهندسين تشربوا من عبق الحضارة الإيطالية، فكان المبنى انعكاسًا لفن معماري يمزج بين الشرق والغرب، بين الحجارة التي نحتت من قساوة الأرض، وأقواس الطراز المستشرق التي احتضنت ظلالًا من روح إيطاليا.

 

 

على مر السنين، ظل المستشفى أشبه بمملكة صغيرة تنبض بالحياة وسط اللا شيء. كان في داخله عالَم آخر، حيث يُبدد النور الذي يتسلل من النوافذ الشامخة عتمة الممرات، وحيث الأطباء والممرضون يتحركون بصمت كأنهم أوتار آلة موسيقية تعزف سمفونية الشفاء. في الثلاثينيات، تنفس المستشفى أنفاسه الجديدة بعد تجديده وتزويده بمرافق حديثة، كأن الزمن قرر أن يهدي هذا البناء نبضًا آخر، لتشرق في جنباته أجهزة الأشعة السينية، وتنبعث الحياة في صيدليته، وتحتضن غرفه أجيالًا من الأمهات والمواليد الجدد.

 

كما استخدمت تلك القاعة الواسعة قبل بناء كنيسة القصير كنيسة لعمال الشركة الايطاليين ومهندسيها، حيث كانت تقام القداسات، تحولت الجدران إلى شهود صامتة على طقوس إيمانية كان يؤديها مهندسو وعمال الفوسفات الايطاليين، وكأن صلواتهم كانت ترتفع مع دخان البخور لتعانق السماء. تلك الكنيسة الصغيرة التي تزينت بناقوس خشبي على ناصيتها، لم تكن مجرد مكان للعبادة، بل كانت بالنسبة لهم ملاذًا للروح في وسط صخب الحياة اليومية. وعندما غابت الصلوات، تحولت إلى عيادة، لكن روح القداسة لم تفارقها، بل استقرت في أركانها بصمت حميمي.

وفي سطور الزمن المتلاحقة، تحول المستشفى الإيطالي إلى مقر لجمعية المحافظة على تراث القصير، تلك الجمعية التي حملت على عاتقها مسؤولية الحفاظ على إرث المدينة العريق، وكأنما المستشفى ذاته قد انتقل من مهمة علاج الأجساد إلى علاج ذاكرة المدينة وحماية تراثها. تحت سقف هذا المبنى العتيق، اجتمع عشاق التاريخ وعلماء التراث ليشكلوا جبهة قوية في مواجهة عوامل النسيان والتدهور.

لقد لعبت الجمعية دورًا محوريًا في إحياء روح القصير القديمة، فكانت اليد التي أعادت الحياة إلى بيت الشيخ توفيق، ذلك البيت الذي أصبح منارة سياحية، وامتزجت فيه عبق الأصالة مع الحداثة والسياحة. بأيدٍ حانية وجهود مخلصة، أُعيد ترميم البيت ليعود كما كان، شامخًا بحجارته، ناطقًا برائحة الماضي الجميل.

وكذلك كان للجمعية دور بارز في أعمال ترميم وتجديد قلعة القصير، ذلك الحصن التاريخي الذي شهد على صراعات الأزمان وتحديات التاريخ. بفضل جهود الجمعية، استعادت القلعة هيبتها، وتوهجت جدرانها مرة أخرى تحت أشعة الشمس التي لم تفارقها يومًا. تلك القلعة، التي كانت على وشك أن تسقط في براثن الإهمال، عادت لتقف شاهدة على عصور المجد والبطولة، تروي لزوارها حكايات عن قوافل التجارة والجنود الذين مروا من بوابتها العملاقة.

تحول المستشفى إلى مركز للحفاظ على التراث لم يكن مجرد تغيير في الوظيفة، بل كان تحولًا في الروح، حيث أصبح المبنى شاهدًا على إرادة الإنسان في صون ذاكرته والاعتزاز بجذوره. اليوم، يقف هذا الصرح شامخًا، ليس كرمز للعلاج أو العبادة فحسب، بل كرمز للحفاظ على هوية مدينة القصير، مدينة تتنفس التاريخ وتنبض بالأصالة.

من الخارج، يبدو المبنى كأنه قصر من قصور الأساطير. بوابته العملاقة تُفتح لتستقبل الداخلين كأنها فم الزمن، ونوافذه الشامخة تطل على الأفق بعيون هادئة متأملة. عندما تخطو داخله، تجد نفسك في حضرة الصمت؛ ذلك الصمت العميق الذي لا تكسره سوى همسات التاريخ. كل زاوية وكل غرفة تتحدث عن عصور مضت، وعن أرواح مرت هنا وتركت أثرها في هذا البناء.

والآن، بعد أن تم ترميمه ليصبح مقرًا لمركز تطوير التعلم، لا يزال المبنى يحتفظ بجماله الأصلي وروحه الخالدة. إنه ليس مجرد بناء حجري، بل هو سجل حي، يتحدث بلغة الماضي ويهمس بأسرار المستقبل، بينما تظل الشمس تغرب وتشرق عليه، شاهدة على خلود هذا المكان

الكاتب : دكتور فى التاريخ الحديث والمعاصر..و عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية …والجمعية الجغرافية المصرية 


اكتشاف المزيد من أخبار السفارات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من أخبار السفارات

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading